الاخلاص لله تعالى
من الاُمور التي امتاز بها الفقيه المقدس الميرزا التبريزي(قدس سره)استغلال الفرص لتربية وبناء الروح والذات، فبالإضافة الى حالة الزهد والتقوى التي كان يتحلى بها الميرزا كان دائم السعي لتربية روحه وبناء ذاته، ولم تكن المرجعية سوى امتحان واختبار بنظر الميرزا([1])، لذا فقد كان كثير الدقة والاحتياط في اُمورها لا سيما في مسألة الحقوق الشرعية بما يحرز معه رضا صاحب العصر والزمان(عليه السلام) بتمام المعنى، ويمكن الاشارة إلى تهجده وتوسله آناء الليل في الحرم المطهر، ومسجد الامام الحسن العسكري(عليه السلام)، وزيارة أهل القبور، ومناجاته الطويلة كنماذج من برنامج الميرزا في بناء الروح والذات([2])، لقد كان يطلب الرشد الروحي وبناء الذات طوال أيام عمره، ويقوم بنصيحة طلاب العلم الشباب إن رآهم أهلاً لذلك.
يقول في ذلك: «على الانسان أن يكون دائم الذكر للموت وأن لا يغفل عن امكانية جبر تقصيره في جنب الله وامكانية ادّخار الزاد ليوم المعاد مادامت هناك فرصة ومتسع في العمر، وعلى طلاب العلم الشباب أن يسعوا للوصول إلى مراتب الكمال في زمن شبابهم، ويعجنوا طينتهم بالروحانيات والمعنويات، ويبنوا أنفسهم بحيث لا يستطيع هوى النفس أن يغويهم ويضلهم، ومن يسعى منهم في سبيل ذلك فإن الله حليفه وناصره ومن هذا دأبه سيكون التوفيق الالهي من نصيبه ويصل إلى مرتبة عليا».
([1]) المرجعية والإفتاء للناس أجرها عظيم وخطرها كثير.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كثير الأجر كبير الفضل جليل الموقع لأنّ المفتي وارث الأنبياء(عليهم السلام) وقائم بفرض الكفاية لكنّه معرّض للخطأ والخطر ولهذا قالوا: المفتي موقّع عن الله تعالى فلينظر كيف يقول. وقد ورد فيه وفي آدابه والتوقف فيه والتحذير منه من الآيات والأخبار والآثار أشياء كثيرة نورد جملة من عيونها، قال الله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ)». إلى أن قال: «وانظر إلى قوله تعالى حكايةً عن رسوله (صلى الله عليه وآله) ـ أكرم خلقه عليه ـ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الاَْقاوِيلِ لاََخَذْنا مِنْهُ بِالَْيمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ).فإذا كان هذا تهديده لأكرم خلقه عليه فكيف حال غيره إذا تقوّل عليه عند حضوره بين يديه…». ]منية المريد، ص 143[
([2]) لابدّ للعالم من مراعاة جهة العمل والاهتمام بتكميل نفسه.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «وللعالم في تقصيره في العمل بعد أخذه بظواهر الشريعة واستعمال ما دوّنه الفقهاء من الصلاة والصيام والدعاء وتلاوة القرآن وغيرها من العبادات ضروب اُخر، فإنّ الأعمال الواجبة عليه فضلاً عن غير الواجبة غير منحصرة فيما ذكر بل من الخارج عن الأبواب التي رتّبها الفقهاء، ما هو أهم ومعرفته أوجب والمطالبة بهوالمناقشة عليه أعظم وهو تطهير النفس عن الرذائل الخلقية من الكبر والرياء والحسد والحقد وغيرها من الرذائل المهلكات ممّا هو مقرر في علوم تختصّ به وحراسة اللسان عن الغيبة والنميمة وكلام ذي اللسانين وذكر عيوب المسلمين وغيرها وكذا القول في سائر الجوارح فإنّ لها أحكاما تخصّها وذنوباً مقرّرة في محالها، لابدّ لكلّ أحد من تعلّمها وامتثال حكمها وهي تكليفات لا توجد في كتاب البيوع والإجارات وغيرها من كتب الفقه بل لابدّ من الرجوع فيها إلى علماء الحقيقة العاملين وكتبهم المدونة في ذلك. وما أعظم اغترار العالم بالله تعالى في رضاه بالعلوم الرسميّة وإغفاله إصلاح نفسه وإرضاء ربّه تبارك وتعالى». ]منية المريد، ص 54[
استغلال الفرص لتربية الروح
أنا شاب في السابعة عشر من عمري ولا أعلم أألتحق بالحوزة العلمية أم بالجامعة أرجو منكم إرشادي ونصيحتي.
باسمه تعالى: من الضروري التحاق عدد من الشباب ـ الذين لديهم القابلية الجيدة والذين يطمئنون من أنفسهم بأنهم إذا درسوا يستطيعون الوصول الى مقامات علمية عالية وتقديم خدمات دينية للمجتمع ـ بالحوزات العلمية حتى يتعرفوا على المعارف الدينية والأحكام الشرعية ويقدموا الخدمات اللازمة لمجتمع المؤمنين، ولا يخفى أن أجرهم الاُخروي لايقاس بأجر المشتغلين بسائر العلوم الاُخرى([1]) وإن وجب تعلم بعض العلوم الاُخرى التي يحتاجها المجتمع فانه مع قصد القربة في تعلمها يستحق الثواب والأجر الاُخروي([2]) إن شاء الله تعالى والله الموفق.
([1]) إنّ لطلب العلم خصوصاً العلوم الشرعيّة شرافةً عظيمةً.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «اعلم أنّ الله سبحانه جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طرّاً وكفى بذلك جلالة وفخراً، قال الله تعالى في محكم الكتاب ـ تذكرة وتبصرة لأُولي الألباب ـ (اللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوات وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً). وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم لا سيّما علم التوحيد الذي هو أساس كلّ علم ومدار كلّ معرفة وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأوّل منّة امتنّ بهاعلى ابن آدم بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أوّل سورة أنزلها على نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الاِْنْسانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الاِْنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ). فتأمّل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بنعمة الإيجاد ثمّ أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمّ منّة أو توجد نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لما خصّه الله تعالى بذلك وصدّر به نور الهداية وطريق الدلالة على الصراط المستقيم الأخذ بحجزة البراعة ودقائق المعاني وحقائق البلاغة…». ]منية المريد، ص 10[
([2]) تعلّم غير العلوم الشرعيّة يختلف حكمه باختلاف الموارد والنيّات.
قال الشهيد (رحمه الله) عند ذكر مراتب أحكام العلوم: «وأمّا فرض الكفاية فما لابدّ للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما والفقه والأُصول والعربية ومعرفة رواة الحديث وأحوالهم والإجماع وما يحتاج إليه في قوام أمر المعاش كالطب والحساب وتعلّم الصنائع الضرورية كالخياطة والفلاحة حتى الحجامة ونحوها». إلى أن قال: «وباقي العلوم من الطبيعي والرياضي والصناعي أكثره موصوف بالإباحة بالنظر إلى ذاته وقد يمكن جعله مندوباً لتكميل النفس وإعدادها لغيره من العلوم الشرعية بتقويتها في القوّة النظرية وقد يكون حراماً إذا استلزم التقصير في العلم الواجب عيناً أو كفاية كما يتّفق كثيراً في زماننا هذا لبعض المحرومين الغافلين عن حقائق الدين. ومن هذا الباب الاشتغال في العلوم التي هي آلة العلم الشرعي زيادة عن القدر المعتبر منها في الآليّة مع وجوب الاشتغال بالعلم الشرعي لعدم قيام من فيه الكفاية به ونحوه». ]منية المريد، ص 221 و 222]
الحفاظ على زي الطلبة
أنا طالب أكاديمي على أبواب الجامعة وعليّ انتخاب الفرع الذي أرغب به وقد ترددت في أن اكمل دراستي الأكاديمية أو التحق بالحوزة العلمية فماذا تنصحوني؟
باسمه تعالى: اذا اطمئننت من نفسك بالتغلب على المصاعب والمشاق وأن تكون في المستقبل فرداً مفيداً بحيث تسد ثغرة من احتياجات المسلمين في هذه الحالة تكون الدراسة الحوزوية أفضل وإلا عليك انتخاب فرع جامعي يحتاجه المسلمون وأدِّ وظيفتك من خلاله.
الطلبة والمعاشرة مع الأصدقاء
كان الميرزا التبريزي(قدس سره) يحب لطالب العلم أن يحافظ على زيّه في كل الحالات والأوقات، وكان رأيه في ذلك: أنّ على طالب العلم أن يكون عمله وتصرفه وشكله الظاهري على نحو يذكر الناس بربهم عند رؤيتهم له([1]).
وكان الميرزا شديد الحساسية ازاء اطالة شعر الرأس بالنسبة إلى الطلبة، وإذا ما رأى مثل هذه الحالة فإنه كان يغضب لذلك غضباً شديداً، وإذا ما رأى طالب علم طويل الشعر أو أنه لم يُبقِ من شعر لحيته سوى النزر اليسير أو يلبس لباساً ضيقاً، أو أنه يضع قميصه داخل بنطاله أو أن ألوان لباسه غير مناسبة إذا ما رأى أمثال ذلك على الطالب فإنه كان يسأله: أأنت من الطلبة؟ ماذا سيكون جوابك لو رآك إمام الزمان(عج) على هذه الحالة؟ كما كان ذا حساسية ازاء لبس العمامة على الشعر الطويل أو اخراج الغرّة من الشعر من تحت العمامة وينزعج لهذه المظاهر كثيراً، وينصح أصحابها بكل محبة، ويسعى جاهداً لأن يتنبه صاحب تلك الحالة إلى المسألة.
وأحياناً كان يقول: «إنني خجل من إمام الزمان من هذه الحالة التي أنت عليها! بني! لا تؤلم قلب امام الزمان(عج)، ألا تريد خدمة الدين والمذهب وأن يتلطف بك امام الزمان(عج)؟! إن كنت تريد تبليغ الدين وتستن بسنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وتعمل لهداية الاُمة فعليك أن تكون القدوة في كل شيء».
وقد شوهد الميرزا مرات عديدة وهو ينصح الطلاب الشباب، وإذا ما رأى طالباً ملتزماً محافظاً على حسن الظاهر حفّزه على ذلك وبارك له، ان الناس ينظرون إلى طالب العلم نظرة مختلفة لذا ينبغي أن يكون لباسه مختلفاً عن بقية الناس من حيث بساطته، وإذا ما رأى طالباً قد لبس لباساً لا يتناسب مع شأن طالب العلم ينزعج لذلك كثيراً ويقوم بنصيحته، فقد كان يحب أن يختار الطالب لباساً بسيطاً ليكون قدوة لسائر الناس([2]).
([1]) لابدّ للمعلّم أن يذكّر الطالب بالاجتناب عن مساوئ الاخلاق ومراعاة شؤون طالب العلم.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك عند عدّ آداب المعلّم مع طلبته: «أن يزجره عن سوء الأخلاق وارتكاب المحرمات والمكروهات أو ما يؤدي إلى فساد حال أو ترك اشتغال أو إساءة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة أو معاشرة من لا تليق به عشرته أو نحو ذلك بطريق التعريض ما أمكن لا بطريق التصريح مع الغنى عنه وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار» ثم قال: «فإن انزجر لذكائه بما ذكر من الإشارة فبها ونعمت وإلاّ نهاه سرّاً فإن لم ينته نهاه جهراً ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره ويتأدّب به كلّ سامع فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع سيّما إذا خاف على بعض رفقته من الطلبة موافقته. وكذلك يتعهّد ما يعامل به بعض الطلبة بعضاً من إفشاء السلام وحسن التخاطب في الكلام والتحابب والتعاون على البرّ والتقوى وعلى ما هم بصدده. وبالجملة فكما يعلّمهم مصالح دينهم لمعاملة الله تعالى، يعلّمهم مصالح دنياهم لمعاملة الناس فيكمل لهم فضيلة الحالتين». ]منية المريد، ص 82[
([2]) ينبغي للمعلّم ـ كالمتعلّم ـ الحفاظ على زيّ أهل العلم.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك عند عدّ آداب المعلّم في درسه: «أن لا يخرج إلى الدرس إلاّ كامل الاُهبة وما يوجب له الوقار والهيبة في اللباس والهيأة والنظافة في الثوب والبدن» ثم قال: «وليقصد بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة وليتطيب ويسرح لحيته ويزيل كلّ ما يشينه، كان بعض السلف إذا جاءه الناس لطلب الحديث يغتسل ويتطيّب ويلبس ثياباً جدداً ويضع رداءه على رأسه ثم يجلس على منصّة ولا يزال يبخّر بالعود حتى يفرغ ويقول أحبّ أن أعظم حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله)». ]منية المريد، ص 91[
سجايا لحصول التوفيق
كان الطلبة لا سيما الشباب منهم دائماً يتساءلون عن السبب الذي أوصل الميرزا التبريزي(قدس سره) إلى هذه الدرجة الرفيعة من العلم والمعرفة وجعله يحدث هذا التحوّل العظيم في الحوزة العلمية من خلال تربيته للآلاف من طلبة العلم الفضلاء والمتدينين؟
إنّ التهجد بالأسحار كانت إحدى خصال الميرزا التبريزي(قدس سره) إذ كان يستيقظ قبل أذان الصبح بساعتين ويقوم بإحياء هذا الشطرمن الليل وفي ذلك يقول: «قولوا للطلبة أن يحيوا أسحارهم فإنها ساعات تقسيم الأرزاق».
وكان نفسه محافظاً على الذهاب إلى حرم السيدة المعصومة(عليها السلام) بعد منتصف الليل لأداء ورده العبادي والارتباط بخالقه من خلال التهجد والاحياء، فقد خصص هذا الوقت للارتباط الروحي بالله تعالى والمناجاة والتوسل بأهل بيت النبوة(عليهم السلام)، وكان كلما شاهده احد في تلك الليالي في الحرم المطهر أو في مسجد الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) يستلهم منه العبر والدروس.
ومن الخصوصيات الاُخرى للميرزا التبريزي(قدس سره) أنه كان يولي أهمية خاصة لدروسه وأبحاثه كما لو أنه في ريعان شبابه ولا يسمح بتضييع لحظة واحدة من وقته، وبقي على هذه الوتيرة إلى آخر لحظات عمره([1]) وفي ذلك يقول: «لا تيأسوا من الدراسة واطلبوا العون من الله لتحصيل العلم واستشفعوا بأهل البيت(عليهم السلام) في ذلك» هذه الجدية من الميرزا(قدس سره)صنعت المئات من الطلبة الفضلاء المؤمنين وخلفتهم تذكاراً عنه(قدس سره)وأغرقت الحوزة العلمية بخيرة الطلبة([2]).
كان توكل الميرزا(قدس سره) على الله في اُموره حديث العام والخاص دائم التوسل بأهل البيت(عليهم السلام) وينصح الطلبة أن يتعلقوا بحبالهم فانهم(عليهم السلام) إن تلطفوا بنا فإن مشاكلنا محلولة بإذن الله تعالى.
قال(قدس سره): «انهم وسيلتنا للنجاة في الدنيا والآخرة، الوسيلة التي قال الله عنها: (وابتغوا اليه الوسيلة)وهم أهل بيت النبوة(عليهم السلام) وعليه فينبغي عليكم التوسل بهم وشكاية اُموركم اليهم بكل خضوع وخشوع.
يقول نجل الميرزا التبريزي(قدس سره): لم أر الفقيه المقدس(قدس سره) يطالع جريدة يوماً من الأيام طوال عمره الشريف وإذا ما سئل عن كيفية اطلاعه على أخبار العالم والمسائل اليومية ومشكلات الناس والظلم الذي يتعرضون له كان يجيبهم: «انني أطلع على كل ذلك عبر جهاز المذياع الذي لدي». كان المرحوم التبريزي(قدس سره) يستمع من المذياع إلى أخبار الداخل والخارج أثناء برنامج مطالعته وكان يأبى تضييع الوقت في قراءة الصحف والجرائد وفي ذلك يقول: «لا اُريد لعيوني أن تستهلك في غير علوم آل محمد(صلى الله عليه وآله)».
تنظيم الأعمال والدقة في الوقت كان من جملة الخصائص الاُخرى التي تميّز بها الميرزا(قدس سره) وأولاها أهمية حيث تقول في ذلك عائلته: «كنا ننظم ساعتنا اعتماداً على أعمال الميرزا لدقته في الأوقات وتنظيمه لأعماله، فقد كان لديه برنامج نهاري وآخر ليلي دقيقين، كان يستفيد من وقته بالنحو الأحسن والأكمل عبر هذين البرنامجين.
الخصوصية الاُخرى عند الميرزا هي التواضع المفرط، فلم يكن يعتبر نفسه سوى طالب علم([3]) فيقول في ذلك: «انني واحد من طلبة العلم وسأبقى عبارة عن طالب علم على الدوام، ولم اُفكر يوماً ولن أفعل، على أنني مرجع، فان لذة طلب العلم لا توازيها أي لذة اخرى، انني كواحد من الطلبة وسأعيش كأحدهم إلى آخر عمري»([4]).
وكان يأبى أن يذكر على الألسن بعنوانه المرجعي حتى أنه كان يغضب من قارئ العزاء حينما كان يتعرض لاسمه ويقول: إن المنبر هو محل لذكر أسماء أهل البيت(عليهم السلام). ومما قاله أيضاً: «لو لم تكن المرجعية تكليف إلهي فإنني لم أكن لأتقبلها البتة وكنت لا أنشغل الاّ بتحصيل العلوم وتدريسها كبقية طلبة العلم في كل أوقاتي لكنها اُلقيت على عاتقي كتكليف إلهي ودعائي إلى من الله تعالى أن يوفقني لأن أقوم بواجبي على أحسن وجه»([5]).
([1]) ينبغي للمعلّم والمتعلّم ملازمة الاشتغال بالعلم في جميع أوقاتهم.
قال الشهيد (رحمه الله)في ذلك عند عدّ آداب المعلّم والمتعلّم: «أن لا يزال مجتهداً في الاشتغال قراءةً ومطالعةً وتعليقاً ومباحثةً ومذاكرة وفكراً وحفظاً وإقراءً وغيرها وأن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبه ورأس ماله فلا يشتغل بغيره من الأمور الدنيويّة مع الإمكان وبدونه يقتصر منه على قدر الضرورة وليكن بعد قضاء وظيفته من العلم بحسب أوراده ومن هنا قيل: أعط العلم كُلك يعطيك بعضه. وعن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) إنّ الله عزّ و جلّ يقول: تذاكر العلم بين عبادي ممّا تحيا عليه القلوب الميتة إذا هم انتهوا فيه إلى أمري، وعن الباقر(عليه السلام): رحم الله عبداً أحيا العلم. فقيل: و ما إحياؤه؟ قال: أن يذاكر به أهل الدين و الورع. وعنه(عليه السلام): تذاكر العلم دراسة والدراسة صلاة حسنة. ]منية المريد، ص 66[
([2]) إنّ للتعليم والتدريس منزلة رفيعة، قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «اعلم أنّ التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين وبه يؤمن انمحاق العلم فهو من أهمّ العبادات وآكد فروض الكفايات، قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ). وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللّاعِنُونَ). ومن مشاهير الأخبار قوله(عليه السلام): (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) والأخبار بمعناه كثيرة». ]منية المريد، ص 72[
([3]) لابدّ للعالم من التواضع خصوصاً المعلّم بالنسبة إلى تلامذته.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك حين عدّ آداب المعلّم مع طلبته: «أن لا يتعاظم على المتعلّمين، بل يلين لهم ويتواضع، قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)وقال(صلى الله عليه وآله): (إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا) وقال(صلى الله عليه وآله): (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزّاً وما تواضع أحدٌ لله إلاّ رفعه الله) وهذا في التواضع لمطلق الناس فكيف بهؤلاء الذين هم معه كالأولاد مع ما هم عليه من ملازمتهم له واعتمادهم عليه في طلب العلم النافع ومع ما هم عليه من حقّ الصحبة وحرمة التردّد وشرف المحبّة وصدق التودّد». ]منية المريد، ص 82[
([4]) لابدّ للعالم من الاحتراز عن الثناء على نفسه وتزكيتها.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «وقد قال الله تعالى: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) وقيل لبعض العلماء: ما الصدق القبيح؟ قال: ثناء المرء على نفسه. واعلم أن ثناءك على نفسك مع قبحه ونهي الله تعالى عنه ينقص قدرك عند الناس ويوجب مقتك عند الله تعالى وإذا أردت أن تعرف أنّ ثناءك على نفسك لا يزيد في قدرك عند غيرك فانظر إلى أقرانك إذا أثنوا على أنفسهمبالفضل كيف يستنكره قلبك ويستثقله طبعك وكيف تذمّهم عليه إذا فارقتهم فاعلم أنّهم أيضاً في حال تزكيتك نفسك يذمّونك بقلوبهم ناجزاً ويظهرونه بألسنتهم إذا فارقتهم». ]منية المريد، ص 184[
([5]) الإفتاء للناس واجب كفاية وكذا تحصيل مرتبته.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «الإفتاء فرض كفاية وكذا تحصيل مرتبته فإذا سئل وليس هناك غيره تعيّن عليه الجواب وإن كان ثمّ غيره وحضر فالجواب في حقّهما فرض كفاية» ثم قال: «وإذا لم يكن في الناحية مفت وجب السعي على كلّ مكلّف بها يمكنه تحصيل شرائطها كفاية فإنّ أخلّوا جميعاً بالسعي اشتركوا جميعاً في الإثم والفسق ولا يسقط هذا الوجوب عن البعض باشتغال البعض بل بوصوله إلى المرتبة لجواز أن لا يصل المشتغل إليها لموت وغيره ولا يكفي في سقوط الوجوب ظنّ الوصول». ]منية المريد، ص 151[
آداب قبل شروع الدرس
من سمات الفقيه المقدس الميرزا التبريزي(قدس سره) سعيه الحثيث إلى إيصال رسالته للآخرين لاسيما تلامذته بكل حركة من حركاته وسكناته، فكانت أعماله هادفة ولايصدر منه فعل أو قول أمام الناس إلا عن دقة وحساب فائقين غالباً([1])، فإذا ما دخل المسجد الأعظم لإلقاء دروسه صلى ركعتين ثم رفع يديه إلى السماء للدعاء ثم يرتقي المنبر لإلقاء دروسه، وكان لهذا العمل الأثر البالغ في روحية الطلبة; حيث كانوا يشاهدون بأعينهم هذا المرجع بهذه المرتبة العظيمة وبهذا العلم الغزير يجثو قبل إلقاء درسه في ساحة القدس الإلهي ليطلب المدد والعون، وهذا بحدّ ذاته رسالة إلى جميع المتصدين للتدريس، لقد أراد القول إن على الانسان المتدين أينما كان ومهما كان عمله أن يلتجأ إلى الله تعالى ويتوسل بأهل البيت(عليهم السلام)ويطلب منهم العناية والمدد([2]).
([1]) لابدّ للمعلّم أن يهتمّ بظاهر أعماله وأفعاله أيضاً.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «أن يحترز من مخالفة أفعاله لأقواله وإن كانت على الوجه الشرعي مثل أن يحرّم شيئاً ويفعله أو يوجب شيئاً ويتركه أو يندب إلى فعل شيء ولا يفعله وإن كان فعله ذلك مطابقاً للشرع بحسب حاله فإنّ الأحكام الشرعيّة تختلف باختلاف الأشخاص كما لو أمر بتشييع الجنائز وباقي أحكامهم وأمر بالصيام وقضاء حوائج المؤمنين وأفعال البرّ وزيارة قبور الأنبياء والأئمة ولم يفعل ذلك لاشتغاله بما هو أهمّ منه بحيث ينافي اشتغاله بما يأمر به ما هو فيه والحال أنّه أفضل أو متعين وحينئذ فالواجب عليه مع خوف التباس الأمر أن يبيّن الوجه الموجب للمخالفة دفعاً للوسواس الشيطاني من قلب السامع» إلى أن قال: «وبالجملة فمثل العالم والمتعلّم في انتقاشه بأخلاقه وأفعاله مثل الفصّ والشمع فإنّه لا ينتقش في الشمع إلاّ ما هو منقوش في الفص وقد شاهدنا هذا عياناً في جماعات من طلبة العلم مع مشايخهم على اختلاف أفعالهم وأخلاقهم». ]منية المريد، ص 77[
([2]) ينبغي للمعلّم قبل شروع الدرس مراعاة آداب، قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «أن يسلّم على من حضر إذا وصل إلى المجلس ويصلّي ركعتين تحيّة المسجد إن كان مسجداً وإلاّ نوى بهما الشكر لله تعالى على توفيقه وتأهيله لذلك أو الحاجة إلى تسديده وتأييده وعصمته من الخطأ أو مطلقتين فإن (الصلاة خير موضوع)». ثم قال: «يدعو بعدهما بالتوفيق والإعانة والعصمة» ثم قال: «أن ينوي قبل شروعه بل حين خروجه من منزله تعليم العلم ونشره وبثّ الفوائد الشرعية وتبليغ الأحكام الدينيّة التي اؤتمن عليها وأمر ببيانها والازدياد في العلم بالمذاكرة وإظهار الصواب والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والدعاء للعلماء الماضين والسلف الصالحين وغير ذلك ممّا يحضره من المقاصد. فإنّ بإحضارها بالبال وكثرتها يزيد ثواب العمل فإنّما الأعمال بالنيات». ]منية المريد، ص 91 و 92[
ضرورة دراسة الكتب التقليدية
ومن النكات التي كان الميرزا التبريزي(قدس سره) يوصي بها الطلبة الشباب هي ضرورة دراسة الكتب الحوزوية التقليدية وعدم الخروج عن اطارها، فكان مخالفاً لمناهج التدريس الجديدة أشد المخالفة، يقول في ذلك:
«على طالب العلم أن يقتدي بسلفه في طريقة طلب العلم وقراءة الكتب التي كان عليها السلف فإنها تصنع من الانسان عالماً بحق».
كان مخالفاً لتغيير مناهج الدرس الحوزوي والعدول عن الكتب الحوزوية، وكان يرى ضرورة ترك الحرية للطلاب في انتخاب الكتاب الذي يريدون دراسته من الكتب القديمة، حتى يستطيع كل واحد منهم الدراسة بحسب ما لديه من استعداد وقدرة على ذلك([1])، وكان مخالفاً لانتقال الدروس إلى المدارس، وقد أعلن عن ذلك مراراً أيام حياته، وكان يعتقد بضرورة ترك الحرية للطالب في انتخاب وقت الدرس بحسب استعداده وزمان قابليته للدرس حتى يتمكن من الاستفادة القصوى من درسه، وأنّ على الطلاب المرور على الدروس المختلفة ليروا ما يناسب قابليتهم واستعدادهم فيشتركوا فيها([2]).
([1]) لابدّ لطالب العلم من مراعاة استعداده وفهمه.
قال الشهيد (رحمه الله) في آداب المتعلّم في درسه: «أن يقتصر من المطالعة على ما يحتمله فهمه وينساق إليه ذهنه ولا يمجّه طبعه وليحذر من الاشتغال بما يبدّد الفكر ويحيّر الذهن من الكتب الكثيرة وتفاريق التصانيف فإنّه يضيّع زمانه ويفرّق ذهنه. وليعط الكتاب الذي يقرؤه والفنّ الذي يأخذه كلّيته حتّى يتقنه حذراً من الخبط والانتقال المؤدّي إلى التضييع وعدم الفلاح ومن هذا الباب الاشتغال بكتب الخلاف في العقليّات ونحوها قبل أن يصحّ فهمه ويستقرّ رأيه على الحق ويحسن ذهنه في فهم الجواب وهذا أمر يختلف باختلاف النفوس والإنسان فيه على نفسه بصيرة. ]منية المريد، ص 135[
([2]) ينبغي لطالب العلم الحضور في الدروس المختلفة بحسب استعداده.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك في آداب المتعلّم في درسه: «أن يلازم حلقة شيخه بل جميع مجالسه إذا أمكن فإن ذلك لا يزيده إلاّ خيراً وتحصيلاً وأدباً واطّلاعاً على فوائد متبدّدة لا يكاد يجدها في الدفاتر كما أشار إليه علي(عليه السلام) في حديثه: (ولا تمل من طول صحبته فإنّما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة) ولا يقتصر على سماع درس نفسه فقط فإنّ ذلك علامة قصور الهمّة بل يعتني بسائر الدروس فإنّها كنوز مختلفة وجواهر متعدّدة فليغتنم ما فتح له منها إن احتمل ذهنه ذلك فيشارك أصحابها حتى كأنّ كلّ درس له فإن عجز عن ضبط جميعها اعتنى بالأهمّ فالأهمّ». ]منية المريد، ص 134[
الاحترام لكتب الفقه والحديث
كان الفقيه الكبير المرحوم الميرزا جواد التبريزي(قدس سره) دقيقاً وحذراً في حمل كتب الفقه والحديث، ولأجل أن يأخذ كتاباً ما فانه كان يرفع أحياناً عدد من الكتب ويضعها على الأرض حتى يصل إلى الكتاب الذي يحتاجه.
وكان يولي احتراماً خاصاً لكتب الفقه والحديث عندما ينقلها من مكان إلى آخر فكان يراعي الدقة والاحترام عند نقلها([1])، ويقول دائماً: «إن هذه الكتب تحتوي على الأحاديث الشريفة لأهل البيت(عليهم السلام) فانقلوها بدقة واحترام». وكان ينحني بشدة حتى يضع الكتاب على الأرض أو على الطاولة، وأحياناً يقبل الكتب احتراماً لما تحتويه من علوم ومعارف لأهل البيت(عليهم السلام)، وكان هذا درساً لجلسائه والمحيطين به.
ويقول ابنه: لم أر والدي يوماً يمد رجله اثناء المطالعة وكان يجلس باحترام والكتب تحيط به من كل جانب وأثناء درسه كان يقول: «ان حمل هذه الكتب بهذه الأيدي أمان من نار جهنم لأن فيها أحاديث ومعارف أهل البيت(عليهم السلام)».
إقامة مجالس العزاء لأهل بيت النبوة(عليهم السلام)
كان فقيه أهل البيت الميرزا جواد التبريزي(قدس سره) معروفاً بشدة البكاء في مجالس عزاء أهل البيت(عليهم السلام) الأمر الذي كان له الأثر العجيب على الحاضرين فكان الطلبة لاسيما الشباب منهم يهيمون في النظر إلى وجهه النوراني الذي يجود بزخات الدموع كسحاب مثقل بالمطر.
ولطالما كرر الميرزا(قدس سره) هذه العبارات على ابنه: «اطلبوا من الخطباء أن يطيلوا في ذكر المصيبة»، فقد كان مولعاً بسماع مصائب أهل البيت(عليهم السلام)يكفكف دموعه بكامل التواضع بذلك المنديل الأسود الذي أوصى بدفنه معه في القبر، ثم يهيم بحالته الروحانية تلك في محبة أهل البيت(عليهم السلام)ويذرف غزيز دمعته لمصائبهم، وكان يهدف إلى اضفاء هذه الحالة العزائية على الآخرين إضافةً إلى التزامه بها، فاذا ما رأى أحد الحاضرين غير مكترث بالمصيبة نبّهه بنفسه أو عبر واسطة.
وكان يقيم مأتماً للعزاء في صباح كل خميس في مكتبه ويحضره بنفسه بكل رغبة وشوق متأدباً في مجلس ذكر مقامات أهل البيت(عليهم السلام).
([1]) ينبغي لطالب العلم مراعاة الأدب بالنسبة إلى كتبه.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «… ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها وشرفها وشرف مصنّفها فيضع الأشرف أعلى الكلّ ثم يراعي التدريج فإن كان فيها المصحف الكريم جعله أعلى الكل والأولى أن يكون في خريطة ذات عروة في مسمار أو وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس ثمّ كتب الحديث الصرف ثم تفسير القرآن ثم تفسير الحديث ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الفقه ثم العربية. ولا يضع ذات القطع الكبير فوق ذوات الصغير لئلاّ يكثر تساقطها ولا يكثر وضع الردة في أثنائه لئلاّ يسرع تكسّرها». ثم قال: «أن لا يجعل الكتاب خزانة للكراريس أو غيرها ولا مخدة ولا مروحة ولا مكنساً ولا مسنداً ولا متكئاً ولا مقتلة للبراغيث وغيرها لا سيّما في الورق ولا يطوي حاشية الورقة أو زاويتها ولا يعلم بعود أو بشيء جاف بل بورقة لطيفة ونحوها وإذا ظفر فلا يكبس ظفره قوياً». ]منية المريد، ص 193 و 194[
أحاديث أهل البيت وعلوم آل محمد(عليهم السلام)
لقد كان الفقيه المقدس الميرزا التبريزي(قدس سره) شديد التأنّي في تقليب الكتب و في انتقاء الكتاب الذي يستند عليه وربما حدث أن تناول العديد من الكتب ثم يرجعها إلى مكانها إلى أن ينتخب منها كتاباً، كان يولي الكتب الروائية والفقهية احتراماً خاصاً([1]) ويتناولها بكل احترام وعناية ومما ينقل عنه في ذلك قوله دائماً «إنها أحاديث وعلوم ومعارف أهل البيت(عليهم السلام)الشريفة فانتبهوا في حملها ونقلها».
لم يلحظ على الميرزا التبريزي(قدس سره) يوماً أنه تناول كتاباً ثم ألقاه إلى الأرض; بل كان ينحني إلى أن يضعه بيده على الأرض أو على الطاولة، وكان ذلك درساً لكل من كان حوله.
يقول نجله: لم أرَ والدي المرحوم يمد رجليه أثناء المطالعة قط، فكان يجلس جلسة المتربع دائماً وينشغل بمطالعته بين كتبه التي تحيط به من كل جانب، وكان يحمل كتبه الفقهية والروائية بنفسه إذا ما توجه لإعطاء الدرس وكان الميرزا يقول في ذلك: «إن حمل هذه الكتب أمان ليدي من نار جهنم لأنها معارف أهل البيت(عليهم السلام) وفقه آل محمد(صلى الله عليه وآله)».
([1]) إن لعلمي الحديث والفقه شرفاً عظيماً وكذا كتبهما باعتبارهما.
قال الشهيد (رحمه الله) في ذلك: «وأمّا علم الحديث فهو أجلّ العلوم قدراً وأعلاها رتبةً وأعظمها مثوبةً بعد القرآن وهو ما أضيف إلى النبي(صلى الله عليه وآله) أو إلى الأئمة المعصومين(عليه السلام) قولاً أو فعلاً أو تقريراً أو صفةً حتى الحركات والسكنات واليقظة والنوم وهو ضربان رواية ودراية. فالأوّل العلم بما ذكر. والثاني وهو المراد بعلم الحديث عند الإطلاق وهو علم يعرف به معاني ما ذكر ومتنه وطرقه وصحيحه وسقيمه وما يحتاج إليه من شروط الرواية وأصناف المرويّات ليعرف المقبول منه والمردود ليعمل به أو يجتنب. وهو أفضل العلمين فإنّ الغرض الذاتيّ منهما هو العمل والدراية هي السبب القريب له وقد روي عن الصادق(عليه السلام) أنه قال: (خبر تدريه خير من ألف ترويه)» إلى أن قال: «وأمّا الفقه فأصله ـ في اللغة ـ الفهم أو فهم الأشياء الدقيقة ـ وفي الاصطلاح: علم بحكم شرعي فرعيّ مكتسب من دليل تفصيلي سواء كان من نصه أم استنباطاً منه وفائدته امتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه المحصّلان للفوائد الدنيويّة والأخروية. وممّا ورد في فضله وآدابه خبر: (من يرد الله به خيرا فقّهه في الدين)…». ]منية المريد، ص 212 و 215[
اقامة مجالس أهل البيت(عليهم السلام) حفظ للشعائر
لقد كانت اللحظات التي يحضر فيها الفقيه المقدس الميرزا جواد التبريزي(قدس سره) مجالس عزاء أهل البيت(عليهم السلام) مفيدة ومؤثرة جداً في الآخرين، فإذا ما حضر مجلساً للعزاء (قبل مرضه) يرفض الوسائد والمساند التي تقدم له، ويفضّل الجلوس بما يتناسب مع مجلس العزاء ويقول: «ينبغي أن لا يكون حضورنا في مجالس العزاء كحضورنا في مجالس الاستراحة، فمجالس أهل البيت(عليهم السلام) اضافة إلى كونها حفاظاً على الشعائر ويجب على كل فرد المشاركة فيها بأيِّ نحو أمكن هي مجالس تبجيلهم وذكر فضائلهم ومناقبهم(عليهم السلام)، ومن ثَمّ ينبغي التأدب والتواضع ونكران الذات فيها، ولو كان المشارك فيها مرجعاً للتقليد، لذا لا تخصصوا لي مكاناً في المجلس اعتدّ فيه بنفسي، إنني أحضر في هذه المجالس عملاً بالتكليف وابرازاً للحب والتقدير والتبجيل والعشق لأهل بيت النبوة(عليهم السلام)، وإني لآمل أن يكون هذا العمل ذخيرة ليوم (لا ينفع مال ولا بنون)». لقد كان(قدس سره) من المعزّين الحقيقيين لأهل البيت(عليهم السلام)، يقيم المآتم لهم في كل مناسبة ويحضر فيها بنفسه، ويذرف دموعه كزخات المطر، وللحقيقة فقد انحصرت مجالس الميرزا بشخصه المبارك، فنظرة واحدة إلى شخصه كانت كافية لاحداث هزّة في عمق الانسان. كان المعلم والمربي المخلص، وبغيابه أحدث فراغاً ملحوظاً في الحوزة العلمية، واحترقت لفقده الكثير من قلوب الفضلاء والطلبة.
دروس ولائيّة
كان الفقيه المقدس الميرزا جواد التبريزي(قدس سره) ملتزماً باصطحاب منديل أسود خاص لمسح دموع البكاء على مصائب أهل البيت(عليهم السلام)، وقلّما ينسى اصطحابه معه، كان يتفق أن يشارك فجأة في مجلس من مجالس العزاء ولايكون معه ذلك المنديل، لكن بالنسبة للمجالس التي عنده علم مسبق بها كان يصطحب معه منديلين يمسح بهما دموع البكاء على مصائب أهل البيت(عليهم السلام)، وكان ملتزماً بذلك ويقول دائماً: «إنني اُريد هذين المنديلين لقبري وقد أوصيت بدفنهما معي ليكونا أماناً لي في قبري ويوم معادي».
وقد وفق أبناء الميرزا(قدس سره) بحمد الله إلى تنفيذ هذه الوصية فوضع منديل في يده المباركة والآخر على صدره.
وبهذا العمل يكون قد علمنا درساً آخر من دروس الولاء وابراز المحبة لآل البيت(عليهم السلام); وهو أن نسعى لتحصيل الأمان لأنفسنا من عذاب القبر بالتمسك بهذه الطريقة، فنمسح دموع بكاءنا على أهل البيت(عليهم السلام)بمنديل خاص ليكون أماناً لنا في القبر وعند المعاد ونوراً يوم القيامة.
لقد كانت تلك المناديل شاهداً على ابراز محبته(قدس سره) وعواطفه تجاه أهل البيت(عليهم السلام)، فهنيئاً له فقد عاش سعيداً ومات سعيداً.
البكاء لمظلوميّة أهل البيت(عليهم السلام)
كان لدى الفقيه المقدس الميرزا التبريزي(قدس سره) منديلان أسودان يحملهما إذا ما أراد المشاركة في مجالس العزاء فيستخدمهما لمسح دموعه في مصائب أهل البيت(عليهم السلام) ويحافظ عليهما فإذا ما انتهى من مجلس العزاء وضعهما في مكان خاص وأكد على أولاده في ضمن وصاياه: «أن يجعلوا هذين المنديلين في أكفانه عند رحلته».
وعند عروج روحه المقدسة وقبل تكفينه لم يعثروا على ذينك المنديلين رغم البحث والتفتيش، ولمّا أحضروا الأكفان ليدرجوه فيها فتحوا الكفن وإذا بالمنديلين داخل الكفن، حينها علموا أن الميرزا المرحوم قد جعلهما داخل أكفانه بنفسه قبل توجهه إلى المستشفى (وهو آخر مستشفى يتلقى فيه العلاج وقد توفي فيه)، فوضعوا منديلاً في يده اليمنى والآخر على صدره المبارك، هذا المنديل الذي كان الميرزا يمسح به دموعه لسنوات طويلة، ويقول مرات ومرات: إذا كان هناك من شيء ينفعني في آخرتي فهو هذان المنديلان اللذان مسحت بهما دموع العشق لأهل البيت على مدار أعوام طويلة، وها قد دفنا معه ليكونا شاهدين نافعين له في قبره وعند معاده; لأنه كان يمسح بهما دموع عينيه الجارية على مصائب أهل بيت النبوة لسنين متمادية، وبهذا يكون قد أعطانا درساً آخر في الولاء بأن على الجميع أن يبذل جميع ما يمكن لابراز محبته ومشاعره تجاه مظلومية أهل البيت لتكون شافعة نافعة لنا في قبرنا وعند معادنا.
الحفاظ على شعائر سيّدالشهداء(عليه السلام)
كان الفقيه المقدس الميرزا جواد التبريزي(قدس سره) يسعى جاهداً للحفاظ على شعائر سيدالشهداء(عليه السلام) ويقف كالطود الأشم بوجه كل من تسوّل له نفسه ترويج الشبهات، وبعد سقوط النظام في العراق، وشروع الوهابية بالقتل الجماعي للشيعة المظلومين داخل العراق، أخذت الأسئلة تنهال على الشيخ بخصوص اقامة بعض الشعائر الحسينية والسفر لزيارة كربلاء.
(وكان من يسأل تلك الأسئلة يتوقع أن يقوم الشيخ الميرزا بتحريم السفر إلى كربلاء وتحريم اقامة بعض الشعائر الحسينية في ظل تلك الأوضاع) لكن المرحوم الميرزا كان يجيبهم بكل إخلاص وتواضع: «إنني لا أتدخّل في قضايا سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)، فالتدخّل في مثل تلك القضايا يحتاج إلى جرأة لا أملكها، إذ كل رأي يحتاج إلى جواب غداً أمام الباري عز وجل ولا قدرة لي على الإجابة أمامه تعالى، إنني أعشق الإمام الحسين(عليه السلام) ومستعد لتقديم كل ما لدي في سبيل الإمام الحسين(عليه السلام)، وإنني أعتقد أن كل ما يفعلونه سوف لن يقصّر من عزيمة المؤمنين لزيارة الإمام الحسين(عليه السلام) وابرازهم الشوق والمحبة له; بل على العكس تماماً إن ارادة المؤمنين وشوقهم سوف يزداد يوماً عن يوم. إن كل واحد يشخّص تكليفه ووظيفته في هذه المسائل، فما الإشكال في أن يقدّم الإنسان روحه في سبيل زيارة الإمام الحسين(عليه السلام)؟! وهل نحن أفضل من أهل البيت(عليهم السلام)؟! فقد تخلّوا عن كل ما لديهم في سبيل الله، حفظ الله هؤلاء الشباب المخلصين الذين أبرزوا شوقهم ومحبتهم لأهل البيت(عليهم السلام) بكل إخلاص، وإنني أدعو لجميع الأعزّاء الساعين في طريق إحياء الشعائر الحسينية».
إحياء عزاء الإمام الحسين(عليه السلام)
لقد سُئِلَ الفقيه المقدس الميرزا جواد التبريزي(قدس سره) مراراً عن كيفية اقامة مراسم عزاء سيد الشهداء(عليه السلام) فكان يجيب والدموع تنحدر من عينيه: لقد ضحّى الامام الحسين(عليه السلام) بجميع ما لديه في سبيل الله، وجاد بنفسه ليحفظ هذا الدين المقدس، ودافع عن جهود النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله) وجهاد الصديقة الشهيدة، وجهود أميرالمؤمنين(عليه السلام) والامام الحسن(عليه السلام) بدمائه، ولم يدّخر شيئاً يملكه إلا وبذله في سبيل الله حتى أهله وعياله، فوظيفتنا تقديم كل ما نستطيع في عزاء سيد الشهداء(عليه السلام)لنحفظ هذه الواقعة إلى الأبد إن شاء الله تعالى، ومن أراد أن يحشر سعيداً راضياً بدون حسرة عليه أن يكون حسينياً حقيقياً، وأن يشارك في جميع أحزان أهل البيت(عليهم السلام) ويساعد على إحيائها بكل ما يستطيع وستكتب له جميع تلك الأعمال في ميزان حسناته بإذنه تعالى.
